سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبوّة بإنزال وحيه عليه وباهر قدرته بأنه تعالى لو شاء لذهب بالقرآن، ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر، وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله، وأنه من أكبر النعم والفضل الذي أبقى له ذكراً إلى آخر الدهر ورفع له قدراً به في الدنيا والآخرة، وإذا كان فصحاء اللسان الذي نزل به وبلغاؤهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن يكونوا أعجز عن {أن يأتوا بمثل} جميعه، ولو تعاون الثقلان عليه {لا يأتون بمثله ولو كان} الجنّ تفعل أفعالاً مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في العجز، ويحتمل أن تكون الملائكة مندرجين تحت لفظ الجن لأنه قد يطلق عليهم هذا الاسم كقوله {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} وإن كان الأكثر استعماله في غير الملائكة من الأشكال الجنية المستترين عن أبصار الإنس، ويحتمل أن يكون ذكر الجن هنا لأنه عليه السلام بعث إلى الإنس والجن فوقع التعجيز للثقلين معاً لذلك.
وروي أن جماعة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنّا نحن نقدر على المجيء بمثل هذا، فنزلت {ولا يأتون} جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة في {لئن} وهي الداخلة على الشرط كقوله {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} فالجواب في نحو هذا للقسم المحذوف لا للشرط، ولذلك جاء مرفوعاً. فأما قول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة *** لأتلفنا عن دماء القوم ننتفل
فاللام في {لئن} زائدة وليست موطئة لقسم قبلها. فلذلك جزم في قوله لأتلفنا وقد احتج بهذا ونحوه الفراء في زعمه أنه إذا اجتمع القسم والشرط وتقدم القسم ولم يسبقهما ذو خبر أنه يجوز أن يكون الجواب للقسم وهو الأكثر وللشرط، ومذهب البصريين يحتم الجواب للقسم خاصة. وذكر ابن عطية هنا فصلاً حسناً في ذكر الإعجاز نقلناه بقصته. قال: وفهمت العرب بخلوص فهمها في ميز الكلام ودريتها به ما لا نفهمه نحن ولا كل من خالطته حضارة، ففهموا العجز عنه ضرورة وشاهده وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً ولكل حصل علم قطعي لكن ليس في مرتبة واحدة، وهذا كما علمت الصحابة شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم وأعماله ومشاهده علم ضرورة، وعلمنا نحن المتواتر من ذلك بنقل التواتر فحصل للجميع القطع لكن في مرتبتين، وفهم إعجاز القرآن أرباب الفصاحة الذين لهم غرائب في ميز الكلام، ألا ترى إلى فهم الفرزدق شعر جرير وذي الرمّة في قول الفرزدق:
علام تلفتين وأنت تحتي *** وفي قول جرير:
تلفت إنها تحت ابن قين ***
وألا ترى قول الأعرابي: عز فحكم فقطع، وألا ترى إلى الاستدلال الآخر على البعث بقوله {حتى زرتم المقابر} فقال: إن الزيارة تقتضي الانصراف، ومنه علم بشار بقول أبي عمرو بن العلاء في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت *** ومنه قول الأعرابي للأصمعي:
من أحوج الكريم أن يقسم ***
فهم مع هذه الأفهام أقروا بالعجز، ولجأ النجاد منهم إلى السيف ورضي بالقتل والسباء وكشف الحرم. وهو كان يجد المندوحة عن ذلك بالمعارضة انتهى. ما اقتصرنا عليه من كلامه وكان قد قدم قبل ذلك قوله والعجز في معارضة القرآن إنما وقع في النظم، وعلة ذلك الإحاطة التي لا يتصف بها إلاّ الله عز وجل والبشر مقصر ضرورة بالجهل والنسيان والغفلة وأنواع النقص، فإذا نظم كلمة خفي عنه العلل التي ذكرنا.
وقال الزمخشري: {ولا يأتون} جواب قسم محذوف، ولولا اللام الموطئة لجاز أن تكون جواباً للشرط. كقوله:
يقول لا غائب مالي ولا حرم ***
لأن الشرط وقع ماضياً انتهى. يعني بالشرط قوله وهو صدر البيت:
وإن أتاه خليل يوم مسأله ***
فأتاه فعل ماض دخلت عليه أداة الشرط فخلصته للاستقبال، وأفهم كلام الزمخشري أن يقول: وإن كان مرفوعاً هو جواب الشرط الذي هو وإن أتاه، وهذا الذي ذهب إليه هو مخالف لمذهب سيبويه ولمذهب الكوفيين والمبرد، لأن مذهب سيبويه في مثل هذا التركيب وهو أن يكون فعل الشرط ماضياً وبعده مضارع مرفوع أن ذلك المضارع هو على نية التقديم وجواب الشرط محذوف، ومذهب الكوفيين والمبرد أنه الجواب لكنه على حذف الفاء، ومذهب ثالث وهو أنه هو جواب الشرط وهو الذي قال به الزمخشري والكلام على هذه المذاهب مذكور في علم النحو.
وقال الزمخشري: والعجب من المذاهب ومن زعمهم أن القرآن قديم مع اعترافهم بأنه معجز، وإنما يكون المعجز حيث تكون القدرة فيقال: الله قادر على خلق الأجسام والعباد عاجزون عنه، والمحال الذي لا مجال للقدرة فيه ولا مدخل لها فيه كثاني القديم فلا يقال للفاعل قد عجز عنه ولا هو معجز، ولو قيل ذلك لجاز وصف الله بالعجز لأنه لا يوصف بالقدرة على المحال إلاّ أن يكابروا فيقولوا: هو قادر على المحال فإن رأس مالهم المكابرة وقلب الحقائق انتهى. وتكرر لفظ مثل في قوله: {لا يأتون بمثله} على سبيل التأكيد والتوضيح، وأن المراد منهم {أن يأتوا} بمثله إذ قد يراد بمثل الشيء في موضع الشيء نفسه، فبين بتكرار {بمثله} ولم يكن التركيب {لا يأتون} به رفعاً لهذا الاحتمال، وأن المطلوب منهم أن يأتوا بالمثل لا أن يأتوا بالقرآن.
ولما ذكر تعالى عجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن نبه على فضله تعالى بما ردّد فيه وضرب من الأمثال والعبر التي تدل على توحيده تعالى، ومع كثرة ما ردد من الأمثلة وأسبغ من النعم لم يكونوا إلاّ كافرين به وبنعمه.
وقرأ الجمهور: {صرّفنا} بتشديد الراء والحسن بتخفيفها، والظاهر أن مفعول {صرّفنا} محذوف تقديره البينات والعبر و{من} لابتداء الغاية. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد {صرّفنا} {كل مثل} انتهى. يعني فيكون مفعول {صرّفنا} {كل مثل} وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين، والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق، والقرآن ملآن من الأمثال التي ضربها الله تعالى.
وقال الزمخشري: {من كل مثل} من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقال أبو عبد الله الرازي: {من كل مثل} إشارة إلى التحدّي به بالجهات المختلفة كالتحدي بكل القرآن كالذي هنا، وبسورة مثله وبكلام من سورة كقوله {فليأتوا بحديث مثله} ومع ظهور عجزهم أبوا {إلاّ كفوراً} انتهى ملخصاً. وقيل: {من كل مثل} من الترغيب والترهيب وأنباء الأولين والآخرين وذكر الجنة والنار وأكثر الناس. قيل: من كان في عهد الرسول من المشركين وأهل الكتاب. وقيل: أهل مكة وهو الظاهر بدليل ما أتى بعده من قوله {وقالوا لن نؤمن لك} وتقدم القول في دخول {إلاّ} بعد {أبى} في سورة براءة. وروي في مقالتهم هذه أخبار مطولة هي في كتب الحديث والسير ملخصها أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما جاء إليهم جرت بينهم محاورات في ترك دينهم وطلبه منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة والملك فأبى، فقال: «لست أطلب ذلك». فاقترحوا عليه الست الآيات التي ذكرها الله هنا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تحداهم بأن {يأتوا بمثل هذا القرآن} فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه، وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج، فقالوا ما حكاه الله عنهم.
وقرأ الكوفيون: {تفجره} من فجر مخففاً وباقي السبعة من فجر مشدداً، والتضعيف للمبالغة لا للتعدية، والأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار من أفجر رباعياً وهي لغة في فجر الأرض هنا أرض مكة وهي الأرض التي فيها تصرف العالمين ومعاشهم، روي عنهم أنهم قالوا له: أزل جبال مكة وفجر لنا {ينبوعاً} حتى يسهل علينا الحرث والزرع وأحي لنا قصياً فإنه كان صدوقاً يخبرنا عن صدقك اقترحوا لهم أولاً هذه الآية ثم اقترحوا أخرى له عليه السلام أن {تكون} له {جنة من نخيل وعنب} وهما كانا الغالب على بلادهم، ومن أعظم ما يقتنون، ومعنى {خلالها} أي وسط تلك الجنة وأثناءها. فتسقي ذلك النخل وتلك الكروم وانتصب {خلالها} على الظرف.
وقرأ الجمهور: {تسقط} بتاء الخطاب مضارع أسقط السماء نصباً، ومجاهد بياء الغيبة مضارع سقط السماء رفعاً، وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي {كسْفاً} بسكون السين وباقي السبعة بفتحها.
وقولهم {كما زعمت} إشارة إلى قوله تعالى {إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء} وقيل: {كما زعمت} إن ربك إن شاء فعل. وقيل: هو ما في هذه السورة من قوله {أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو نرسل عليكم حاصباً} قال أبو عليّ {قبيلاً} معاينة كقوله {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} وقال غيره: {قبيلاً} كفيلاً من تقبله بكذا إذا كفله، والقبيل والزعيم والكفيل بمعنى واحد. وقال الزمخشري: {قبيلاً} كفيلاً بما تقول شاهداً لصحته، والمعنى أو تأتي بالله {قبيلاً} والملائكة {قبيلاً} كقوله:
كنت منه ووالدي بريا *** وإني وقيار بها لغريب
أي مقابلاً كالعشير بمعنى المعاشر ونحوه {لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} أو جماعة حالاً من الملائكة. وقرأ الأعرج قبلاً م المقابلة. وقرأ الجمهور: {من زخرف} وعبد الله من ذهب، ولا تحمل على أنها قراءة لمخالفة السواد وإنما هي تفسير. وقال مجاهد: كنا لا ندري ما الزخرف حتى رأيت في قراءة عبد الله من ذهب. وقال الزجّاج: الزخرف الزينة وتقدم شرح الزخرف. {وفي السماء} على حذف مضاف، أي في معارج السماء. والظاهر أن {السماء} هنا هي المظلة. وقيل: المراد إلى مكان عال وكل ما علا وارتفع يسمى سماء. وقال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع *** وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
قيل: وقائل هذه هو ابن أبي أمية قال: لن نؤمن حتى تضع على السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها ثم تأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، ويحتمل أن يكون مجموع أولئك الصناديد قالوا ذلك وغيوا إيمانهم بحصول واحد من هذه المقترحات، ويحتمل أن يكون كل واحد اقترح واحداً منها ونسب ذلك للجميع لرضاهم به أو تكون {أو} فيها للتفضيل أي قال كل واحد منهم مقالة مخصوصة منها، وما اكتفوا بالتغيية بالرقي {في السماء} حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم {كتاباً} يقرؤونه، ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله تعالى وهو أن يأتي {بالله والملائكة قبيلاً} أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به، ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال {سبحان ربي هل كنت إلاّ بشراً رسولاً} أي ما كنت إلاّ بشراً رسولاً أي من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات.
وقال الزمخشري: وما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلاّ العناد واللجاج، ولو جاءتهم كل آية لقالوا هذا سحر كما قال عز وعلا {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس} {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون} وحين أنكروا. الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم لم يكن انتهى وشق القمر أعظم من شق الأرض ونبع الماء من بين أصابعه أعظم من نبع الماء من الحجر. وقرأ ابن كثير وابن عامر قال {سبحان ربي} على الخبر تعجب عليه الصلاة والسلام من اقتراحاتهم عليه، ونزه ربه عما جوزوا عليه من الإتيان والانتقال وذلك في حق الله مستحيل {هل كنت إلاّ بشراً} مثلهم {رسولاً}، والرسل لا تأتي إلاّ بما يظهره الله عليهم من الآيات وليس أمرها إليهم إنما ذلك إلى الله.


الظاهر أن قوله: {وما منع الناس} إخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان، إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً، وبعد أن ظهر المعجز فيجب الإقرار والاعتراف برسالته فقولهم: لا بد أن يكون من الملائكة تحكم فاسد، ويظهر من كلام ابن عطية أن قوله {وما منع الناس} هو من قول الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية على معنى التوبيخ والتلهف من النبيّ عليه الصلاة والسلام كأنه يقول متعجباً منهم ما شاء الله كان {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلاّ} هذه العلة النزرة والاستبعاد الذي لا يسند إلى حجة، وبعثة البشر رسلاً غير بدع ولا غريب فيها يقع الإفهام والتمكن من النظر كما لو كان في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين لكان الرسول إليهم من الملائكة ليقع الإفهام، وأما البشر فلو بعث إليهم ملك لنفرت طبائعهم من رؤيته ولم تحتمله أبصارهم ولا تجلدت له قلوبهم، وإنما الله أجرى أحوالهم على معتادها انتهى.
و {أن يؤمنوا} في موضع نصب و{أن قالوا}: في موضع رفع، و{إذ} ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة و{الهدى} هو القرآن ومن جاء به، وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشئ عن اعتقاد والهمزة في {أبعث} للإنكار و{رسولاً} ظاهره أنه نعت، ويجوز أن يكون {رسولاً} مفعول بعث، و{بشراً} حال متقدمة عليه أي {أبعث الله رسولاً} في حال كونه {بشراً}، وكذلك يجوز في قوله {ملكاً رسولاً} أي {لنزلنا عليهم من السماء} {رسولاً} في حال كونه {ملكاً}. وقوله {يمشون} يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلمون ما يجب علمه، بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل، {لنزلنا عليهم} من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم.
ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لداعوه، أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم، وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد، وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله {إنه كان بعباده خبيراً} بخفيات أسرارهم {بصيراً} مطلقاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم. والظاهر أن قوله: {ومن يهد الله} إخبار من الله تعالى وليس مندرجاً تحت {قل} لقوله {ونحشرهم} ويحتمل أن يكون مندرجاً لمجيء {ومن} بالواو، ويكون {ونحشرهم} إخباراً من الله تعالى. وعلى القول الأول يكون التفاتاً إذ خرج من الغيبة للتكلم، ولما تقدم دعوة الرسول إلى الإيمان وتحدى بالمعجز الذي آتاه الله، ولجوّا في كفرهم وعنادهم ولم يجد فيهم ما جاء به من الهدى أخبر بأن ذلك كله راجع إلى مشيئته تعالى وأنه هو الهادي وهو المفضل، فسلاه تعالى بذلك وأخبر تعالى على سبيل التهديد لهم والوعيد الصدق لحالهم وقت حشرهم يوم القيامة.
وقال الزمخشري: {ومن يهد الله} ومن يوفقه ويلطف به {فهو المهتدي} لأنه لا يلطف إلاّ بمن عرف أن اللطف ينفع فيه {ومن يضلل} ومن يخذل {فلن تجد لهم أولياء} أنصاراً انتهى. وهو على طريقة الأعتزال ومن مفعول بيهد وبيضلل، وحمل على اللفظ في قوله {فهو المهتدي} فأفرد ملاحظة لسبيل الهدى وهي واحدة فناسب التوحيد التوحيد، وحمل على المعنى في قوله {فلن تجد لهم أولياء} لا على اللفظ ملاحظة لسبيل الضلال فإنها متشعبة متعددة فناسب التشعيب والتعديد الجمع، وهذا من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداءً من غير أن يتقدّم الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن، والظاهر أن قوله {على وجوههم} حقيقة كما قال تعالى {يوم يسحبون في النار على وجوههم} الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم. وفي هذا حديث قيل: يا رسول الله كيف يمشي الكافر على وجهه؟ قال: «أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجلين قادراً أن يمشيه في الآخرة على وجهه» قال قتادة: بلى وعزة ربنا. وقيل: {على وجوههم} مجاز يقال للمنصرف عن أمر خائباً مهموماً انصرف على وجهه، ويقال للبعير كأنما يمشي على وجهه. وقيل: هو مجاز عن سحبهم على وجوههم على سرعة من قول العرب قدم القوم على وجوههم إذا أسرعوا.
والظاهر أن قوله {عمياً وبكماً وصماً} هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم، ثم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم. وقيل: هي استعارات إما لأنهم من الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات، وإما من حيث لا يرون ما يسرهم ولا يسمعونه ولا ينطقون بحجة. وقال الزمخشري: كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامّون عن سماعه فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقرّ أعينهم ولا يسمعون ما يلذ أسماعهم ولا ينطقون بما يقبل منهم، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى انتهى. وهذا قول ابن عباس والحسن قالا المعنى {عمياً} عما يسرهم، {بكماً} عن التكلم بحجة {صماً} عما ينفعهم. وقيل: {عمياً} عن النظر إلى ما جعل الله لأوليائه، {بكماً} عن مخاطبة الله، {صماً} عما مدح الله به أولياءه، وانتصب {عمياً} وما بعده على الحال والعامل فيها {نحشرهم}. وقيل: يحصل لهم ذلك حقيقة عند قوله {قال اخسؤوا فيها ولا تكلمون} فعلى هذا تكون حالاً مقدرة لأن ذلك لم يكن مقارناً لهم وقت الحشر.
{كلما خبت} قال ابن عباس: كلما فرغت من إحراقهم فيسكن اللهيب القائم عليهم قدر ما يعادون ثم يثور فتلك زيادة السعير، فالزيادة في حيزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدّة لا يصيبها فتور، فعلى هذا يكون {خبت} مجازاً عن سكون لهبها مقدار ما تكون إعادتهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها ثم يعيدها، لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسيرهم على تكذيبهم ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد، وقد دل على ذلك بقوله {ذلك جزاؤهم} والإشارة بذلك إلى ما تقدم من حشرهم على تلك الحال وصيرورتهم إلى جهنم والعذاب فيها، والآيات تعم القرآن والحجج التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ونص على إنكار البعث إذ هو طعن في القدرة الإلهية وهذا مع اعترافهم بأنه تعالى منشئ العالم ومخترعه، ثم إنهم ينكرون الإعادة فصار ذلك تعجيزاً لقدرته.
وتقدم الكلام على قوله {وقالوا أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً} في هذه السورة فأغنى عن إعادته، ولما أنكروا البعث نبههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته فقال: {أو لم يروا} وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة، واحتجاج عليهم بأنهم قد رأوا قدرة الله على خلق هذه الأجرام العظيمة التي بعض ما تحويه البشر، فكيف يقرون بخلق هذا المخلوق العظيم ثم ينكرون إعادة بعض مما حله وذلك مما لا يحيله العقل بل هو مما يجوزه، ثم أخبر الصادق بوقوعه فوجب قبوله والرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، ومعنى {مثلهم} من الإنس لأنهم ليسوا أشد خلقاً منهن كما قال {أأنتم أشد خلقاً أم السماء} وإذا كان قادراً على إنشاء أمثالهم من الإنس من العدم الصرف فهو قادر على أن يعيدهم كما قال {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده} وهو أهون عليه. وعطف قوله {وجعل لهم} على قوله {أو لم يروا} لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت {وجعل لهم} أي للعالمين ذلك {أجلاً لا ريب فيه} وهو الموت أو القيامة، وليس هذا الجعل واحداً في الاستفهام المتضمن التقرير، أو إن كان الأجل القيامة لأنهم منكروها وإذا كان الأجل الموت فهو اسم جنس واقع موقع آجال: {فأبى الظالمون} وهم الواضعون الشيء غير موضعه على سبيل الاعتداء {إلاّ كفوراً} جحوداً لما أتى به الصادق من توحيد الله وإفراده بالعبادة، وبعثهم يوم القيامة للجزاء.


مناسبة قوله {قل لو أنتم تملكون خزائن} الآية أن المشركين قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً. فطلبوا إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، وعلى هذا فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا هذا ما قيل في ارتباط هذه الآية. وقاله العسكري: والذي يظهر لي أن المناسب هو أنه عليه السلام قد منحه الله ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن، فهو أحرص الناس على إيصال الخير وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله، ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحاً بذلك لا يطلب منهم أجراً، وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلاّ الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه، فلا يصل منهم إليه إلاّ الأذى، فنبه تعالى بهذه الآية على سماحته عليه السلام وبذله ما آتاه الله، وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه فقال: لو ملكوا التصرف في {خزائن رحمة} الله التي هي وسعت كل شيء كانوا أبخل من كل أحد بما أوتوه من ذلك بحيث لا يصل منهم لأحد شيء من النفع إذ طبيعتهم الإقتار وهو الإمساك عن التوسع في النفقة، هذا مع ما أوتوه من الخزائن، فهذه الآية جاءت مبينة تبين ما بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام من حرصه على نفعهم وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه، والمستقرأ في {لو} التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره أن يليها الفعل إما ماضياً وإما مضارعاً. كقوله {لو نشاء لجعلناه حطاماً} أو منفياً بلم أو أن وهنا في قوله {قل لو أنتم تملكون} وليها الاسم فاختلفوا في تخريجه، فذهب الحوفي والزمخشري وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم إلى أنه مرفوع بفعل محذوف يفسره الفعل بعده، ولما حذف ذلك الفعل وهو تملك انفصل الضمير وهو الفاعل بتملك كقوله:.
وإن هو لم يحمل على النفس ضميها ***
التقدير وإن لم يحمل فحذف لم يحمل وانفصل الضمير المستكن في يحمل فصار هو، وهنا انفصل الضمير المتصل البارز وهو الواو فصار {أنتم}، وهذا التخريج بناء على أن {لو} يليها الفعل ظاهراً ومضمراً في فصيح الكلام، وهذا ليس بمذهب البصريين.
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تلي لو إلاّ الفعل ظاهر أو لا يليها مضمراً إلاّ في ضرورة أو نادر كلام مثل: ما جاء في المثل من قولهم:
لو ذات سوار لطمتني ***
وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن بن الصائغ: البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح، ويجيزونه شاذاً كقولهم:
لو ذات سوار لطمتني ***
وهو عندهم على فعل مضمر كقوله تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره} فهو من باب الاشتغال انتهى. وخرّج ذلك أبو الحسن عليّ بن فضال المجاشعي على إضمار كان، والتقدير {قل لو} كنتم {أنتم} تملكون فظاهر هذا التخريج أنه حذف كنتم برمته وبقي {أنتم} توكيداً لذلك الضمير المحذوف مع الفعل، وذهب شيخنا الأستاذ أبو الحسن الصائغ إلى حذف كان فانفصل اسمها الذي كان متصلاً بها، والتقدير {قل لو} كنتم {تملكون} فلما حذف الفعل انفصل المرفوع، وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد {لو} معهود في لسان العرب، والرحمة هنا الرزق وسائر نعمه على خلقه.
والكلام على {إذاً لأمسكتم} تقدم نظيره في قوله {إذاً لأذقناك} و{خشية} مفعول من أجله، والظاهر أن {الإنفاق} على مشهور مدلوله فيكون على حذف مضاف، أي {خشية} عاقبة {الإنفاق} وهو النفاد. وقال أبو عبيدة: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، فيكون المعنى خشية الافتقار. والقتور الممسك البخيل {والإنسان} هنا للجنس.
ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم سلاه تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم {أرنا الله جهرة} إذ قالت قريش {أو تأتي بالله} وقالت {أو نرى ربنا} وسكن قلبه ونبه على أن عاقبتهم للدمار والهلاك كما جرى لفرعون إذ أهلكه الله ومن معه. و{تسع آيات} قال ابن عباس وجماعة من الصحابة: هي اليد البيضاء، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم هذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فعن ابن عباس لسانه كان به عقد فحلها الله، والبحر الذي فلق له. وعنه أيضاً البحر والجبل الذي نتق عليهم. وعنه أيضاً السنون ونقص من الثمرات وقاله مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة. وقال الحسن: السنون ونقص الثمرات آية واحدة، وعن الحسن ووهب البحر والموت أرسل عليهم. وعن ابن جبير الحجر والبحر. وعن محمد بن كعب: البحر والسنون. وقيل: {تسع آيات} هي من الكتاب، وذلك أن يهودياً قال لصاحبه: تعالى حتى نسأل هذا النبيّ فقال الآخر لا تقل إنه نبيّ فإنه لو سمع كلامك صارت له أربعة أعين، فأتياه وسألاه عن {تسع آيات بينات} فقال: لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله، ولا تسخروا، ولا تقذفوا المحصنات، ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة يهود أن لا تعتدوا في السبت، قال: فقبلا يده وقالا: نشهد أنك نبيّ فقال: ما منعكما أن تسلما؟ قالا: إن داود دعا الله أن لا يزال في ذريته نبيّ وإنّا نخاف إن أسلمنا تقتلنا اليهود. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وقرأ الجمهور: فسل {بني إسرائيل} وبنو إسرائيل معاصروه، وفسل معمول لقول محذوف أي فقلنا سل، والظاهر أنه خطاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم أمره أن يسألهم عما أعلمه به من غيب القصة.
ثم قال: {إذ جاءهم} يريد آباءهم وأدخلهم في الضمير إذ هم منهم. وقال الزمخشري: سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم معك. ويدل عليه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل {بني إسرائيل} على لفظ الماضي بغير همز وهي لغة قريش. وقيل: فسل يا رسول الله المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات لتزداد يقيناً وطمأنينة قلب، لأن الدلالة إذا تظافرت كان ذلك أقوى وأثبت كقول إبراهيم عليه السلام {ولكن ليطمئن قلبي} انتهى. وهذا القول هو الأول وهو ما أعلمه به من غيب القصة. ولما كان متعلق السؤال محذوفاً احتمل هذه التقديرات، والظاهر أن الأمر بالسؤال لبني إسرائيل هو حقيقة. وقال ابن عطية ما معناه: يحتمل أن يكون السؤال عبارة عن تطلب أخبارهم والنظر في أحوالهم وما في كتبهم. نحو قوله {واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا} جعل النظر والتطلب معبراً عنه بالسؤال، ولذلك قال الحسن: سؤالك إياهم نظرك في القرآن، والظاهر أن {إذ} معمولة لآتينا أي {آتينا} حين جاء أتاهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم نعلق {إذ جاءهم}؟ قلت: أما على الوجه الأول فبالقول المحذوف أي فقلنا له سلهم حين جاءهم، وأما على الآخر فبآتينا أو بإضمار اذكر أو يخبرونك انتهى. ولا يتأتى تعلقه باذكر ولا بيخبرونك لأنه ظرف ماض. وقراءة فسأل مروية عن ابن عباس. قال ابن عباس: كلام محذوف وتقديره فسأل موسى فرعون بني إسرائيل أي طلبهم لينجيهم من العذاب انتهى. وعلى قراءة فسل يكون التقدير فقلنا له سل {بني إسرائيل} أي سل فرعون إطلاق بني إسرائيل. وقال أبو عبد الله الرازي: فسل {بني إسرائيل} اعتراض في الكلام والتقدير، {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} إذ جاء {بني إسرائيل} فسلهم وليس المطلوب من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود صدق ما ذكره الرسول عليه السلام، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد انتهى. وعلى قراءة فسأل ماضياً وقدره فسأل فرعون {بني إسرائيل} يكون المفعول الأول لسأل محذوفاً، والثاني هو {بني إسرائيل} وجاز أن يكون من الأعمال لأنه توارد على فرعون سأل وفقال فأعمل، الثاني على ما هو أرجح.
والظاهر أن قوله {مسحوراً} اسم مفعول أي قد سحرت بكلامك هذا مختل وما يأتي به غير مستقيم وهذا خطاب بنقيض. وقال الفراء والطبري: مفعول بمعنى فاعل أي ساحراً، فهذه العجائب التي يأتي بها من أمر السحر، وقالوا: مفعول بمعنى فاعل مشؤوم وميمون وإنما هو شائم ويامن. وقرأ الجمهور: {لقد علمت} بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه أنه مسحور أي لقد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر، ولا أني خدعت في عقلي، بل علمت أنه ما أنزلها إلاّ الله، وما أحسن ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ {رب السموات والأرض} إذ هو لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب العالمين قال: {رب السموات والأرض} ينبهه على نقصه وأنه لا تصرّف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة، فبكتَّه وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله
{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً} وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والكسائي {علمت} بضم التاء أخبر موسى عن نفسه أنه ليس بمسحور كما وصفه فرعون، بل هو يعلم أن {ما أنزل هؤلاء} الآيات إلاّ الله.
وروي عن عليّ أنه قال: ما علم عدوّ الله قط وإنما علم موسى، وهذا القول عن عليّ لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول، وكيف يصح هذا القول وقراءة الجماعة بالفتح على خطاب فرعون.
و {ما أنزل} جملة في موضع نصب علق عنها {علمت}. ومعنى {بصائر} دلالات على وحدانية الله وصدق رسوله والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع. وانتصب {بصائر} على الحال في قول ابن عطية والحوفي وأبي البقاء، وقالا: حال من {هؤلاء} وهذا لا يصح إلاّ على مذهب الكسائي والأخفش لأنهما يجيزان ما ضرب هنداً هذا إلاّ زيد ضاحكة. ومذهب الجمهور أنه لا يجوز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول على إضمار فعل يدل عليه ما قبله التقدير ضربها ضاحكة، وكذلك يقدرون هنا أنزلها {بصائر} وعند هؤلاء لا يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إلاّ أن يكون مستثنى منه أو تابعاً له.
وقابل موسى ظنه بظن فرعون فقال: {وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} وشتان ما بين الظنين ظن فرعون ظن باطل، وظن موسى ظن صدق، ولذلك آلَ أمر فرعون إلى الهلاك كان أولاً موسى عليه السلام يتوقع من فرعون أذى كما قال {إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} فأمر أن يقول له قولاً ليناً فلما قال له الله: لا تخف وثق بحماية الله، فصال على فرعون صولة المحمي. وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك. ومثبور مهلك في قول الحسن ومجاهد، وملعون في قول ابن عباس، وناقص العقل فيما روى ميمون بن مهران، ومسحور في قول الضحاك قال: رد عليه مثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وعن الفراء مثبور مصروف عن الخير مطبوع على قلبك من قولهم: ما ثبرك عن هذا؟ أي ما منعك وصرفك. وقرأ أبيّ وإن أخالك يا فرعون لمثبوراً وهي أن الخفيفة، واللام الفارقة واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء، فحاق به مكره وأغرقه الله وقبطه أراد أن تخلو أرض مصر منهم فأخلاها الله منه. ومن قومه والضمير في {من بعده} عائد على فرعون أي من بعد إغراقه، و{الأرض} المأمور بسكناها أرض الشام، والظاهر أن يكون الأمر بذلك حقيقة على لسان موسى عليه السلام ووعد الآخرة قيام الساعة.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9